2 قراءة دقيقة
أسرار ميكانيكا الكم، كابوس آينشتاين |  The Secrets of Quantum Physics Einstein's nightmare 《الجزء الأول》

وراء تعقيدات الحياة اليومية، تبدو قوانين الكون بسيطة بشكل يبعث على الطمأنينة، لنتخيل أننا فوق جسر؛ هذا الجسر سيتحمل وزن أي شخص كان، المياه التي تجري تحته تتدفق نزولاً دوماً، حين نرمي بحجر ما فإنه يسير في الهواء على مسار متوقع دوماً، لكن كلما دقق العلماء في العناصر الأساسية متناهية الصغر للمادة، يتبخر هذا اليقين؛ اكتشفوا عالم ميكانيك الكم الغريب، عميقاً داخل كل ما نراه حولنا، وجدنا عالماً لا يشبه عالمنا أبداً. حسب أحد مؤسسي ميكانيك الكم، كل ما نعتبره حقيقياً مصنوع من مواد لا يمكننا القول إنها حقيقة بحد ذاتها قبل مائة عام تقريباً، بدأ أحد أروع العلماء في العالم رحلة أسفل جحر الأرنب؛ نحو كل ما هو غريب وغير مألوف، وجدوا أنه في عالم الأشياء الصغيرة جداً؛ يمكن أن يتواجد الأشياء في مكانين في ذات الآن، وأن أقدارها غير متوقعة، وأن الواقع نفسه يتحدى المنطق، ما هو على المحك، أن كل ما ظننا أننا نعرفه عن العالم قد يكون خاطئاً تماماً، قصة هبوطنا إلى الجنون العلمي تبدأ مع غرض غير مرجح بتاتاً.

برلين في العام 1890، كانت ألمانيا بلدا جديداً، توحد حديثاً ويتوق ليصبح قوة صناعية، شركات الهندسة الجديدة في ألمانيا الموحدة حديثاً تنفق الملايين لشراء براءات الاختراع الأوروبية لاختراع أديسون الجديد؛ المصباح الكهربائي، لقد كان مثالاً للتكنولوجيا الحديثة، رمز متفائل للتطور، أدركت شركات الهندسة سريعاً أن بناء مصابيح الشوارع في الإمبراطورية الألمانية الجديدة، سيعود عليها بثروات هائلة، لكن ما لا تدركه هو أن ذلك سيتسبب بثورة علمية أيضاً، هذا الغرض المتواضع مسؤول عن ولادة أهم فرضية في مجال العلوم بأكمله؛ ميكانيكا الكم، لأنه في العام 1900 سبب المصباح الكهربائي مشكلة غريبة؛ لاحظ المهندسون أنهم إذا سخنوا فتيل المصباح فإنه سيتوهج، لكن الفيزياء التي تثبت هذا لم تكن معروفة بتاتاً، شيء بسيط مثل العلاقة بين حرارة الفتيل ولون الضوء الذي سيصدره كان لا يزال لغزا، لغز كانوا متشوقين لحله، وبمساعدة الدولة الألمانية الجديدة فهموا كيف يتقدمون على منافسيهم، في العام 1887 استثمرت الحكومة الألمانية الملايين في مركز جديد للبحوث التقنية في برلين، ثم في العام 1900 وظفوا عالماً ذكيا يتمتع بأخلاق عالية للمساعدة بالعمل هناك، كان اسمه "ماكس بلانك"، درس بلانك مشكلة بدت بسيطة بشكل مخادع؛ سبب تغير لون الضوء مع ازدياد درجة سخونة الفتيل، لفهم المشكلة التي كان يواجهها بلانك، لنتخيل أن هناك دراجة مع مصباح كهربائي قديم الطراز، ومولد قديم الطراز، من الواضح انه كلما أسرعنا أكثر كلما أصبح المصباح أكثر توهجا، وكلما ضغطنا على الدواسة أكثر كلما أنتج المولد المزيد من الكهرباء، لكن المصباح لا يصبح أكثر توهجا فحسب، بل لونه يتغير أيضاً، كلما أسرعنا كلما تبدل اللون من الأحمر إلى البرتقالي فالأصفر، إذا أسرعنا أكثر سيصبح الفتيل أكثر سخونة، لكن بالرغم من أنه يصبح أكثر توهجا، يبقى لونه كما هو؛ أصفر مائل إلى الأبيض، لما لا يصبح الضوء أكثر زرقة؟ للتحقيق في هذا قام بلانك وزملائه ببناء جهاز يسمى "مشعاع الجسم الأسود" وهو أنبوب خاص يمكن تسخينه حتى درجة حرارة محددة جداً، ووسيلة  لقياس   اللون أو تردد الضوء الذي أنتجه، اليوم بعد أكثر من مائة سنة يقومون بالقياسات نفسها في مركز البحوث ببرلين، لكن بدقة أكبر بكثير، عند الحرارة 841 درجة مئوية يصدر توهج بلون أحمر يميل للبرتقالي، وهو بنفس لون مصباح الدراجة التي ذكرناها اذا تحركت ببطء، إذا رفعنا درجة الحرارة إلى 2000 درجة مئوية تقريباً سيتوهج بلون ناصع أكثر بياضا، توليد ضوء بهذا التوهج واللون يتطلب طاقة 40 كيلوواط تقريباً، هذا يوازي 400 شخص يركبون دراجات ويتحركون بسرعة كبيرة، أو الطاقة التي ينتجها دراجو طواف فرنسا كلهم. بالرغم من أن الضوء أكثر بياضا، إلا أنه أحمر مائل للأبيض، وهناك القليل فقط من الأزرق، لما إنتاج الضوء الأزرق أصعب بكثير من الأحمر؟ وفي أعلى طيف الضوء الأزرق هناك ما يسمونه الأشعة فوق البنفسجية بالكاد تنتج على الإطلاق؟ حتى إذا نظرنا إلى أكثر الأشياء سخونة، كالشمس مثلاً التي تبلغ درجة حرارتها عند السطح 5000 درجة تقريباً تنتج ضوءا أبيض مرئيا في أغلب الأحيان، وتنتج القليل فقط من الأشعة فوق البنفسجية مقارنة مع حرارتها، لما يصعب إذا إنتاج الأشعة فوق البنفسجية؟ فشل المنطق الواضح هنا، حير العلماء في القرن التاسع عشر، لدرجة أنهم أطلقوا عليه إسما دراميا جداً: "كارثة الأشعة فوق البنفسجية". أخذ بلانك خطوة أولى أساسية لإيجاد حل لهذا، إذ وجد الرابط الرياضي الدقيق بين لون الضوء، تردده وطاقته، لكنه لم يفهم الصلة، غير أن خللا غريب آخر هو ما سيثير المشاكل؛ في أواخر القرن التاسع عشر كان العلماء يدرسون الموجات الإشعاعية التي كانت قد اكتشفت حديثاً وطرق انتقالها، وللقيام بهذا كانوا يبنون معدات للتجارب شبيهة بهذا:

عبر تدوير القرص تمكنوا من توليد طاقة جعلت الشرارات تتطاير في الفراغ بين الكرتين المعدنيتين:

لكن بفعل هذا اكتشفوا شيئا غير متوقع بتاتا يتعلق بالضوء، اكتشفوا انه بتسليط ضوء قوي جداً على الكرتين يمكنهم جعل الشرارات تتطاير بسهولة أكبر:

افترض ذلك وجود صلة غامضة لا يمكن تفسيرها بين الضوء والكهرباء، لفهم ما يحصل استعملوا جهاز يسمى "المكشاف الكهربائي ذو الورقتين الذهبيتين" وهو نسخة أكثر حساسية من الجهاز الذي ذكرناه قبل لحظات:

إذا قمنا بشحنه، ستتباعد الورقتان الذهبيتان:

ما يحصل هو أننا نضع إلكترونات إضافية تدفع الورقتين الذهبيتين بعيداً عن بعضهما، الآن نأخذ ضوءا أحمر ونسلطه على السطح المعدني، نلاحظ أنه لا يحصل أي تغيير حتى إذا زدنا من توهجه:

الآن نأخذ ضوءا أزرق مميز غني بالأشعة فوق البنفسجية:

نلاحظ أن الورقتان قد سقطتا فوراً، يمكن للضوء إزالة الشحن الكهربائي الساكن من الورقتين، يمكنه بطريقة ما أن يتخلص من الإلكترونات التي أضفناها إليهما، لكن لما تجيد الأشعة فوق البنفسجية القيام بهذا أكثر بكثير من الضوء الأحمر، هذه الأحجية الجديدة أصبحت تعرف باسم "الظاهرة الكهروضوئية". كارثة الأشعة فوق البنفسجية والظاهرة الكهروضوئية شكلتا مشكلة للفزيائيين، لأنهم لم يستطيعوا فهم أي منهما مستخدمين أفضل علوم ذلك الزمان؛ العلم الذي كان يقول بشكل قاطع إن الضوء عبارة عن موجة.

 في كل مكان حولنا نرى الضوء يتصرف بطريقة أكثر منطقية من مجرد موجة؛ مثل تموجات الماء كان يعتقد أن الضوء مجرد تموجات تنتشر في الفراغ وقد كانت عدة تجارب تؤكد هذا الطرح، وكان هذا من المسلمات تماماً مثل فكرة أن الأرض كروية، لكن بالرغم من أن نظرية الموجة هذه كانت ناجحة تماماً في حالة الظلال والفقاعات، حين تعلق الأمر بكارثة الأشعة فوق البنفسجية والظاهرة الكهروضوئية ظهر فشلها، هذه كانت المشكلة؛ كيف يمكن للضوء فعل هذا؟  لفهم مدى سخافة هذه النظرية، من الممكن شرح طريقة عمل الموجات في الماء؛ الأمواج الأقوى والأكبر تملك طاقة أكثر تستطيع قذف الأشياء بسهولة، لذا إن كان الضوء موجة فمن المفترض أنه كلما ازدادت قوته كلما زالت المزيد من الإلكترونات، لكن لم يحصل هذا كما رأينا في التجربة السابقة؛ مهما زاد توهج الضوء الأحمر لا يحصل أي شيء، لكن الغريب أن الأشعة فوق البنفسجية الضعيفة نجحت في ذلك في ظرف ثوان، لذا فإن التفكير بالضوء على أنه موجة لم يكن منطقياً، للتوصل إلى حل كان على أحدهم أن يفكر في المستحيل.

 في العام 1905 فعل أحدهم ذلك، إنه ألبرت آينشتاين؛ إذ توصل إلى نظرية لتفسير الظاهرة الكهروضوئية، وما اقترحه كان ثوريا وهرطقيا؛ جادل بأنه علينا أن ننسى فكرة أن الضوء عبارة عن موجة والتفكير فيه على أنه دفق من الجسيمات الصغيرة جداً، التي تشبه الرصاصات، التعبير الذي استخدمه لوصف جسيم الضوء هو الكم؛ وهو كمية صغيرة من الطاقة، وبالرغم من أن التعبير لم يكن جديداً لكن فكرة الضوء هو كمات بدت جنونية، على الرغم من ذلك فإن متابعة تفكير آينشتاين الهرطقي وصولاً إلى خلاصته المنطقية حلت كل مشاكل الضوء في ضربة واحدة، لنشرح هذا سنستعمل مقارنةً تقريبية، في هذه المقارنة هذه الكرات الحمراء تمثل كمات الضوء التي تكلم عنها آينشتاين:

وهذه العلب هي الكهرباء المحفوظة في المعدن:

في التجربة الأصلية جعلنا الكهرباء تتدفق من سطح المعدن عبر تسليط الضوء عليها، في هذه المقارنة سنحاول أن نوقع هذه العلب مستخدمين الكرات الحمراء؛ بعد رمي الكرات على العلب لا يقع أي تأثير على الإطلاق، هذا يذكرنا بالضوء الأحمر، حسب آينشتاين كل جسيم من الضوء الأحمر يحمل القليل فقط من الطاقة لأن الضوء الأحمر ذو تردد منخفض، لذا حتى إذا استعملنا الضوء الأحمر القوي جداً الذي يحوي الكثير من جسيمات الضوء الحمراء لا يمكنه تحريك أي إلكترونات من السطح المعدني. سنستخدم الآن كرات أثقل، مثل كرات الجولف الزرقاء هذه، وسنحاول أن نوقع العلب المعدنية بواسطتها:

نلاحظ أنها تقوم بعملها بسهولة، إذ تشبه الأشعة فوق البنفسجية في التجربة، كل جسيم من الأشعة فوق البنفسجية يحمل طاقة أكبر، لأن الأشعة فوق البنفسجية لها تردد أعلى، القليل منها فقط حتى إذا كانت خافتة فهي كافية لإسقاط الإلكترونات من الطبق المعدني وجعل الورقتين الذهبيتين تسقط، لذا فإن فكرة آينشتاين التي تقول إن الضوء يتألف من جسيمات صغيرة جداً أو كمات، هي تفسير رائع لظاهرة التأثير الكهروضوئي، لكن أكثر من ذلك فكرة آينشتاين ساعدت أيضاً في حل لغز المصباح الكهربائي الذي تحدثنا عنه في تجربة الدراجة، كان هناك ضوء أحمر أكثر من الأشعة فوق البنفسجية لأن كمات الأشعة فوق البنفسجية تطلبت المزيد من الطاقة لتوليدها، نسبة أكبر من الطاقة بمائة مرة، لذا لا عجب في أنه يوجد القليل منها فقط، تلك اللحظة في بداية القرن العشرين، شكلت ثورة حقيقية لأنها أظهرت أن علم الفيزياء الذي كان يمارسه الناس بحاجة الى منظور جديد، لم تتعافى الفيزياء منذ تلك اللحظة، ولكنها مبنية عليها، من هناك انطلقت الفيزياء الحديثة فعليا، نظرية آينشتاين تركت الفيزيائيين أمام مفارقة تسبب الدوار أيضا وتتحدى المنطق تماماً، الضوء موجة حتماً، والآن عرفنا أنه جسيمات أيضاً. بعد بضع سنوات فحسب من فكرة آينشتاين الذكية والمجنونة، أصبحت المفارقة أكثر عمقاً وغرابة بكثير، لأنه ما بدا لغز مثير حول الضوء كان على وشك أن يصبح أرض معركة حول طبيعة الواقع نفسه، وهذا بالضبط ما سنراه الأسبوع القادم في الجزء الثاني من هذا المقال.


مصادر:

  • وثائقي: أسرار فيزياء الكم | The secrets of quantum physics، تقديم: جيم الخليلي، انتاج : BBC4، الحلقة الاولى " كابوس اينشتاين": https://www.dailymotion.com/video/x2f1wr9

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة