أسرار ميكانيكا الكم، كابوس آينشتاين | The Secrets of Quantum Physics Einstein's nightmare 《الجزء االثاني》
أسرار ميكانيكا الكم، كابوس آينشتاين | The Secrets of Quantum Physics Einstein's nightmare 《الجزء االثاني》
2 قراءة دقيقة
إنه العام 1922، يقع الغرب في قبضة ثورة ثقافية، الإمبراطورية العثمانية انهارت، أوربا مازالت تحاول النهوض بعد الحرب التي اندلعت والتي لاقى الملايين من الرجال حتفهم فيها، روسيا أصبحت شيوعية حديثاً، أمريكا تصدر موسيقى الجاز، في الفنون، السياسة، الأدب والاقتصاد فتحت الشهية للتغيير، كانت تلك ولادة الحداثة، ولعل الثورة التي حدثت في مجال الفيزياء آنذاك قد تفوقت على كل المجالات، واستمرت انعكاساتها لفترة أطول بكثير، بدأت باكتشاف طبيعة الضوء الغريبة والمتناقضة بصفته موجة وجسيم، انتهت على شكل معركة أسطورية بين أعظم العلماء حول أكبر المخاطر لطبيعة الواقع نفسه، من جهة هناك موجة من العلماء الجديدين العصريين والثوريين وقائدهم الفيزيائي الدانماركي المذهل "نيلز بوهر"، وفي الجانب الآخر هناك صوت المنطق، آلبرت آينشتاين هو في القمة وأصبح مشهوراً الآن، إنه خصم عملاق، احتدمت المعركة طوال عقود، في الواقع، إنها لازالت محتدمة نوعاً ما، ستشتعل في الجامعات والاجتماعات والنوادي والمقاهي حول العالم، وبدأت بتجربة بدت بسيطة بشكل مخادع، لكن الغريب بشأن هذه التجربة هو أنها لم تكن حتى عن الضوء، بل الجسيمات التي تشكل الكهرباء؛ في منتصف عشرينات القرن الماضي أجريت تجربة كشفت عن شيء غير متوقع بتاتاً يتعلق بالإلكترونات، في ذلك الوقت كانوا يعتقدون من دون أي ادنى شك بأن الإلكترونات عبارة عن كتل صغيرة من المادة، جسيمات صغيرة لكن صلبة مثل كرات البلياردو، في تلك التجربة سلطوا شعاعا من الإلكترونات على كريستال وراقبوها وهي تندثر، هذا مواز تماماً لأخذ شعاع من الإلكترونات من مدفع إلكترونات على سبيل المثال، وإطلاقه على شاشة فيها شقان لتعبر الإلكترونات عبرهما وتصطدم بشاشة أخرى في الخلف، ما وجده العلماء صدم عالم الفيزياء حتى الصميم، لفهم السبب سنجري تجربة مماثلة مع موجات مائية، لنتخيل خزانا يحوي مياه متموجة فوق جهاز عرض العلوي (Data Show)، ومولد يصنع موجات تمر عبر فجوتين ضيقتين، جهاز العرض يسلط صورة الموجات على جدار في الخلف:
يمكنكم أن تروا كيف أن الموجات تأتي وتدخل بصعوبة بين الفجوتين ثم تنتشر في الجهة الأخرى وتتداخل فيما بينها:
ما يعنيه هذا هو أنه حين تلتقي ذروة موجة مع أخرى تجتمعان لتشكلا موجة أكبر، وحين تلتقي ذروة موجة مع بطن أخرى يلغيان بعضهما، هذا يتسبب بهذه الخطوط المميزة التي تؤدي إلى نموذج الموجات المميزة:
خطوط من الضوء والعتمة، حين ترون هذه الخطوط الغامقة (والفاتحة وهي نموذج الموجات المميز) تتأكدون من دون أدنى شك بأنه تصرف موجة:
بدا الآن أن إطلاق إلكترونات التي هي عبارة عن جسيمات صلبة صغيرة عبر الفجوتين أنتج النموذج أعلاه نفسه؛ خطوط من الضوء والعتمة، وجدوا أن الضوء الذي اعتقدوا لعقود طويلة انه موجة يتصرف أحياناً كجسيمات، والإلكترونات التي اعتقدوا انها جسيمات تتصرف كموجة، لكن الأمر كان أكثر غرابة في الواقع، لم يكن نموذج الموجات مجرد نتيجة لشعاع الإلكترونات بالكامل، أعيدت هذه التجربة مؤخراً في عدة مختبرات حول العالم عبر إطلاق إلكترون واحد في كل مرة عبر فجوتين وإلى الشاشة، في البداية بدا أن كل إلكترون يصل بطريقة عشوائية إلى الشاشة لكن تدريجياً تكون نموذج الموجات المميز، الآن لنعد لتجربة خزان الامواج السابقة حيث ظهر فقط أنه كل موجة عبر الفجوتين جزآها يتداخلان، لكن هنا كل إلكترون، كل جسيم يمر بمفرده عبر الفجوتين قبل أن يرتطم بالشاشة، ومع هذا كل إلكترون مازال يضيف لمسة إلى نموذج الموجات المميز، لابد أن يتصرف كل إلكترون كما لو أنه موجة، لتفسير هذه النتيجة الغريبة ابتكر نيلز بوهر وزملاؤه فرضية مجنونة حول الضوء والمادة، تقبلت التناقض ولم تهتم بأنه من المستحيل فهمها تقريباً، كما قال نيلز بوهر نفسه "كل من لا تصعقه نظرية الكم لم يفهمها بعد"، تقول ميكانيكا الكم: لا يمكن اعتبار ما يتحرك جسما، كل ما يمكننا التكلم عنه هو احتمالات تواجد الإلكترون، موجة الاحتمالات هذه تنتقل بطريقة ما عبر الفجوتين مسببة تداخلا كما في حالة الموجة في المياه، ثم حين ترتطم بالشاشة ما كان مجرد احتمال ضعيف لإلكترون يصبح حقيقيا بشكل غامض؛ سنستخدم تشبيها الآن لتوضيح مدى غموض الأمر، إذا افترضنا قطعة نقدية في حالة دوران، طوال مدة دورانها تكون مشوشة، إذ لا يمكننا معرفة ما إذا كانت من جهة الصورة أو الكتابة، لكن إذا أوقفناها فسنجبرها على الاختيار، من قبل كانت مزيج من الإثنين وحين نوقفها تختار أحد الاختيارين، هذا ما يحصل للإلكترونات بحسب بوهر ومناصريه، إذ أن موجة الاحتمالات الخاصة بالإلكترون تمر عبر الفجوتين، مساران في الوقت نفسه، ثم ترتطم موجة الاحتمالات بالشاشة وحينها فقط تصبح جسيما، عالم الكم لم يكن يشبه شيئا جاء قبله، كان بوهر يدعي عمليا انه لا يمكن معرفة مكان الإلكترون بدقة أبدا إلا بعد قياسه، علاوة على أننا لا نعرف مكانه، الغريب هو أن الإلكترون كأنه يتواجد في كل مكان في ذات الآن، والإلكترونات هي أكثر أسس الواقع شعبية وبساطة، ومع ذلك فهاهو بوهر يقول إنه بالنظر إليها فقط يمكننا استحضار موقعها إلى الوجود، كما لو أن هناك ستارا بين عالمنا وعالم الكم، لا يوجد واقع مؤكد، فقط احتمال وجود واقع، تصبح الأمور حقيقية حين نزيل الستارة وننظر، وهذه النظرة أصبحت تعرف ب "تفسير كوبنهاغن"؛ قد تبدو أفكاره مقنعة إلا أن الكثيرين لم يتمكنوا من تقبل أفكار نيلز بوهر الغريبة، ووجدوا أن أقوى العلماء هو قائد بالفطرة؛ ألبرت آينشتاين كره هذا التفسير بكل ذرة من كيانه، معروف عنه قوله: "هل يختفي القمر من الوجود حين لا أنظر إليه؟"، كان حزيناً للغاية لأنه فرض قيوداً على المعرفة، ولم يعتقد بأنها يجب أن تكون نهائية ، بل اعتقد أنه لا بد من أن تكون هناك نظرية أساسية أفضل، طوال العشر سنوات التالية، تجادل آينشتاين وبوهر بشغف، حول ما إذا كانت ميكانيكا الكم تعني التخلي عن الواقع أم لا، ثم ظن آينشتاين أنه وجد طريقة للفوز بالجدال، بمساعدة عالمين آخرين؛ بوريس بودولوسكي ونايثن روزن، كان مقتنعاً بأنه وجد خطئا قاتلاً في تفسير كوبنهاجن، وزعمه أن الواقع استحضر إلى الوجود عبر النظر إليه، في حرب جدال آينشتاين، كان هناك جانب من ميكانيكا الكم اسمه "التشابك الكمي"، التشابك هو هذه العلاقة القريبة جدا والمميزة بين جسيمين كميين تشابك قدرهما، على سبيل المثال، إن تولدا من الحدث نفسه، نفسر هذا عبر تخيل أن الجسيمين هما قطعتين نقديتين تدوران، تخيلوا أن هذين القطعتين هما إلكترونين وقد تولدا عن الحدث نفسه، ثم دفعا بعيداً عن بعضهما:
تقول ميكانيكا الكم، لأنهما تولدا معا، فإنهما متشابكان، والآن الكثير من خصائصها أصبحت متصلة للأبد أينما كانا، تفسير كوبنهاجن يقول: إنه حتى قياس إحدى القطعتين، لا يمكن اعتبار أي منهما، من جهة الصورة أو الكتابة، فلا الصورة ولا الكتابة موجودتان أصلا، وإليكم كيف يجعل التشابك الكمي هذه الحالة الغريبة أكثر غرابة؛ حين نوقف القطعة النقدية الأولى وتصبح صورة مثلاً، ولأن القطعتين متصلتان عبر التشابك الكمي، العملة الثانية ستصبح كتابة بشكل متزامن، وإليكم الأمر الأساسي، لا يمكن التنبؤ بنتيجة القياس، باستثناء أنهما ستكونان متعاكستان دوماً، استغل آينشتاين هذا، يعني أن شيئاً ما يحدث بين القطعتين النقديتين، وهو جنوني جداً إلى حد يصعب تصديقه، وكأن القطعتين تتواصلان بشكل سري فوراً عبر الزمان والمكان، حتى ولو كانت العملة الأولى على كوكب الأرض والثانية على كويكب بلوتو، رفض آينشتاين القبول بهذا التواصل الفوري الذي يتخطى سرعة الضوء، نظرية النسبية التي أعلن عنها تفيد بأنه لا شيء يمكنه السفر بهذه السرعة، ولا حتى المعلومات، لذا كيف يمكن لقطة نقدية واحدة، أن تعرف فوراً كيف ستحط الأخرى، أسماها بازدراء "حركة سحرية عن بعد"، وادعى إنه خطأ مميت في تفسير كوبنهاغن، بل كانت له فكرة أفضل، اعتقد آينشتاين بوجود تفسير أبسط، إنه بطريقة ما قدر القطعتين ثابت من قبل أن نراهما، سواء أأصبحتا صورة أو كتابة، قال على الرغم من أنه العملة قررت أن تكون صورة على سبيل المثال لحظة مراقبتها، إلا أن هذا القرار قد اتخذ قبل وقت طويل، وكان مخفيا عنا، في ذهن آينشتاين جسيمات الكم لم تكن تشبه القطعتين النقديتين اللتين تدوران، كانت شبيهة أكثر بقفازين على سبيل المثال، قفاز لليد اليمنى وآخر لليد اليسرى، وضعا في صندوقين منفصلين، لا نعرف أي صندوق يحتوي على أي قفاز حتى نفتح أحدهما، لكن حين نفعل ونجد قفاز اليد اليمنى على سبيل المثال نعرف تلقائيا أن الآخر يحتوي على قفاز اليد اليسرى، لكن هذا لا يتطلب بتاتاً حركة سحرية عن بعد، لم يتغير أي القفازين بفعل المراقبة، كانا منذ البداية إما لليد اليمني أو اليسرى. نحن الآن أمام تفسيرين، لذا أيهما هو التفسير الصحيح للواقع؟ قطعتا بوهر اللتان تصبحان حقيقيتان فقط بالنظر إليهما ثم تتواصلان بشكل سحري مع بعضهما؟ أو قفازا آينشتاين المخبآن عن أنظارنا، لكنهما إما لليد اليمنى أو لليسرى منذ البداية؟ بتعبير آخر، هل هناك واقع موضوعي كما اعتقد آينشتاين؟ أو لا كما اعتقد بوهر؟
في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وبينما كان العالم يعيش تحت وطأة حرب، لذا المعركة لفهم طبيعة الواقع وصلت إلى طريق مسدود، انتشرت الحرب في أوروبا والكثير من أعظم العلماء فروا إلى الولايات المتحدة، ثم وبعد أن أدت الحرب العالمية الثانية إلى الحرب الباردة، ازدهر العلم في أمريكا مدعوما بالدولار ونظرة جديدة للمستقبل، تذكروا أنه بعد الحرب عاد الفيزيائيين متحمسين جداً، وحاولوا تطبيق أفكار نظرية الكم على الذرات والتفاعل بين الإلكترونات والضوء وما إلى ذلك، ليس عليكم القلق حيال الجانب الفلسفي للأمور للتقدم في هذا، لذا تراجع التفكير في هذا الجانب. أدت ميكانيكا الكم إلى فهم عميق لشبه المواصلات، ما أدى إلى ابتكار العصر الإلكتروني الحديث، أنتجت أجهزة ليزر أحدثت تغييرا جذرياً في وسائل التواصل، وتطورات جديدة مذهلة في مجال الطب، وتقدما مهما في الطاقة النووية، ميكانيكا الكم، كانت ناجحة جدا لدرجة أن معظم الفيزيائيين العاملين، اختاروا تجاهل آينشتاين عمداً، لم يهمهم الأمر حتى إذا كانت ناجحة، حتى إنهم ابتكروا عبارة للرد عن هذا: "اصمت واكتفي بالحساب"، وثمن هذا النجاح كان تجاهل جدال بوهر وآينشتاين حول حقيقة عالم الكم، ووسط كل هذا النجاح والمنهج البراغماتي، كانت هناك فئة قليلة قلقة مما يعنيه كل هذا، لكن مع انتهاء فترة الخمسينيات وبداية الستينيات، فكر شخص معارض بمفرده بطريقة لحل الجدال بشكل نهائي؛ من العدل القول أن جون بيل ليس معروفاً للعامة، لكنه بطل بالنسبة إلى الفيزيائيين، كان مفكرا مبدعاً يتمتع بشجاعة حقيقية فيما يتعلق بمعتقداته، وقصة ارتقاءه ليصبح من بين عظماء الفيزياء تزداد تميزاً حين ننظر إلى بداياته، ولد في عشرينات القرن الماضي في عائلة فقيرة من الطبقة العاملة، كان والده يتاجر بالأحصنة، وقد عانوا كثيراً لإدخاله إلى الجامعة لدراسة الفيزياء، في الواقع كان الوحيد في عائلته الذي أكمل دراسته، مما جعله فضوليا ومندفعا وعنيدا، طوال سنوات عمله في مركز بحوث الطاقة النووية البريطاني ، في هذا المكان بدأ يفكر في الأسئلة العميقة والمقلقة التي طرحتها ميكانيكا الكم، هل عالم الكم يكون موجوداً فقط حين نراقبه؟ أم أن هناك حقيقة أكبر تنتظر أن نكتشفها؟ في الواقع كان يتخبط كثيراً لدرجة أنه بدأ يتساءل عما إن كانت هناك مشكلة في قلب ميكانيكا الكم، معروف عنه قوله: "أتردد بالتفكير أنها قد تكون خاطئة لكنني أعرف أنها فاسدة" لذا في أوائل الستينيات قرر بيل محاولة حل الأزمة في قلب ميكانيكا الكم، كان تحديا أسطوريا، كيف تتحققون ما إن كان شيء ما حقيقياً أو ما إن كان موجوداً أو غير موجود من دون النظر إليه؟ كيف تنظرون خلف الستارة من دون فتحها؟ لكن جون توصل إلى طريقة مذهلة لفعل هذا، وهي واحدة من أكثر الأفكار إبداعا في الفيزياء كلها، وهي بالتأكيد واحدة من الأصعب فهما وتأثيرا، وسنحاول جاهدين شرحها، موظفين مقارنةً أخرى، هذه المرة سنعتمد على لعبة الورق؛ لعبة الورق هي في مواجهة موزع كمي غامض، الورق الذي يوزعه يمثل أي جسيمات دون الذرية، أو حتى وحدات الكم الضوئي "الفوتون"، واللعبة التي سنلعب هي التي ستخبرنا في النهاية من كان محقا، آينشتاين أم بوهر؟ قواعد اللعبة بسيطة بشكل مخادع، سيوزع الموزع بطاقتي ورق مغلقتين، إن حملتا نفس اللون فسنفوز، وإن حملتا لونين مختلفين سنخسر، في البدء سنخسر كل الجولات، لأن الموزع سيكون قد تلاعب بالورق مسبقا كي تكون كل ورقتين مختلفتي اللون، هناك طريقة واحدة لفتح غشاء الموزع، سنغير قواعد اللعبة، هذه المرة إن حملتا لونين مختلفين سنفوز، مجدداً الموزع الكمي يفوز، هذه المرة قد يكون بدل مجموعة الورق وتلاعب بها لحظة عدم انتباهنا كي تكون النتيجة لصالحه دوماً، تذكروا أن آينشتاين ظن حقا أن ما حصل في تجربة التشابك هو تلاعب في الورق، قال إنه كما وضع القفازان مسبقاً في الصندوقين، كذلك قام الموزع بترتيب الأوراق قبل اللعب، لكن فكرة نيلز بوهر كانت مختلفة جداً، قال إن الألوان ليست موجودة قبل أن نقلب الورق، عبقرية بيل كانت أن توصل إلى طريقة للتحديد بشكل نهائي من هو المحق، آينشتاين أم بوهر؟ إليكم كيف قام بهذا: لنعد إلى لعبة الورق، هذه المرة لن نخبر الموزع عن القوانين، ولن نخبره ما إذا كان الحصول على لونين مختلفين أم متشابهين يعني الفوز، إلا بعد أن يوزع الورق، لأنه لا يستطيع التنبؤ بالقواعد التي سنتبعها في اللعب، لا يمكنه ترتيب الورق بشكل صحيح أبداً، لا يستطيع الفوز الآن أو ربما يستطيع، ويبين هذا جوهر فكرة بيل، إن بدأنا اللعب الآن وربحنا بقدر ما خسرنا يكون آينشتاين محقا، الموزع مجرد مخادع بارع في ألعاب التسلية، قد يكون الواقع مخادعا لكنه يتمتع بوجود موضوعي، لكن ماذا لو خسرنا؟ حينها سنجبر على أنه ليس هناك تفسير منطقي، لا بد أن كل ورقة ترسل إشارات سرية إلى الأخرى عبر الزمان والمكان متحدية كل ما نعرفه، حينها سنكون مجبرين على القبول أنه عند مستوى الكم الأساسي، الواقع غير معروف حقاً، اختصر بيل هذه الفكرة في معادلة رياضية واحدة، تخبرنا بحزم، ما بدا ألا جواب له، كيف هو الواقع حقاً؟ نشر جون بيل هذا في العام 1964، والأمر الغريب أنه في ذلك الوقت تجاهله مجتمع الفيزيائيين كله، يبدو أن العالم لم يكن مستعداً فحسب، ربما لأن معادلته بدت غير قابلة للاختبار، أو ربما لم يظن أحد أنها تستحق التدقيق، لكن هذا كان على وشك أن يتغير، والتغيير سيأتي من مكان غير متوقع أبداً.
معادلة بيل
كانت أمريكا تواجه أزمة بسبب فيتنام، فضيحة واترجيت، نصرة المرأة وحزب الفهود السود، وفي خضم كل هذا كانت مجموعة صغيرة من الفيزيائيين الهيبيين، تعمل في جامعة بيركلي في كاليفورنيا، قاموا بكل ما يقوم به الهيبيون، أحبوا ميكانيكا الكم في نسختها الغريبة من الواقع، رأوا أموراً متوازية مع معتقداتهم الخفية، فيزياء العصر الجديد، الهيبية التي أسسوها أثارت انتباه العامة أيضاً الذين قرأوا كتبهم الهيبية المجنونة، التي مزجوا فيها بين ميكانيكا الكم والصوفية الشرقية، لكن ما يهمنا نحن الآن، هو أن هؤلاء الفيزيائيين الهيبيين أظهروا اهتماماً أيضاً للتجربة الفكرية لآينشتاين، التي أصبحت شهيرة الآن وما تخبرنا به عن طبيعة الواقع، برأيهم كانت إشارات نيلز بوهر السرية دليلاً على أن الفيزياء تدعم أفكارهم الخاصة، لأنه إن تمكن جسيمان من التواصل بشكل مخيف عبر الفضاء، فحينها، نظريات الإدراك فوق الحسي والتخاطر والاستبصار ربما تكون صحيحة أيضاً، لو أنهم فقط يستطيعون إثبات وجودها، ثم في العام 1972 أدركوا أنه مع القليل من البراعة في الرياضيات يمكنهم اختبار معادلة بيل بشكل تجريبي، عضو من فريقهم اسمه "جون كلاوزر" استعار بعض المعدات من المختبر الذي كان يعمل فيه وأعد أول اختبار حقيقي ومثالي لميكانيكا الكم، هذه صورة تلك التجربة الأولى التي بنيت من البقايا والمعدات المسروقة:
خلال السنوات المقبلة طورت من قبل فريق يقوده آلان أسبيكت، وذلك في باريس، ما جعلها موثوقة أكثر، بعد أكثر من عشر سنوات على اقتراح بيل لمعادلته، أمكنهم أخيراً اختبارها، هذه هي النسخة الحديثة للتجربة التي أجراها أولاً جون كلاوزر ثم آلان أسبيكت:
هنا تقوم بلورة بتحويل ضوء الليزر إلى أزواج متشابكة من الفوتونات، فتشكل شعاعي ضوء محددين جداً، ثم تنتقل الفوتونات حول مجموعة من الأجهزة حتى تمر عبر أجهزة مكشاف، جسيمان من الفوتون تشبهان ورقتي اللعب اللتين وضعها الموزع الكمي أمامنا، سنقيس الآن خاصية للفوتونات اسمها الاستقطاب، وهي موازية للون ورق اللعب، لذا مثلاً الفوز بورقتين حمراوين قد يكون مساوياً لاثنين من الفوتونات متساويين في الاستقطاب، لكن لأن هذه ميكانيكا الكم فهي معقدة أكثر من لعبة الورق البسيطة، في التجربة يوجد قرص مدرج يسمح لنا بقياس خاصية أخرى للفوتونات، هذا يشبه محاولتنا ليس فقط أن نحرز لون وجه الورق بل لونه من الخارج أيضاً، الآن عند تشغيل الليزر وبدء التجربة، نتجه لشاشة، سنجد هنا رقما يخبرنا بعدد أزواج الفوتونات التي تمر في التجربة:
وهو مساو لعدد أزواج الورق في لعبتنا، الرسم البياني الأول يعطينا احتمال الربح، ويخبرنا أننا نخمن بشكل صحيح، كلما زاد عدد الفوتونات، كلما أصبح أكثر دقة، في التجربة التي قام بها الفيزيائي جمال الخليلي في برنامجه، توقف عند درجة الارتياب 1%، كانت الإجابة النهائية في إعداد القرص الأول هي 0,56، قام بإدخال هذا الرقم في معادلة بيل، وأجرى التجربة ثلاث مرات إضافية موازية للإعدادات الأربع المختلفة للقرص المدرج، كل مرة تشبه قواعد مختلفة للعبة الورق، وحين نجمعها سنحصل على الإجابة، إذا كانت أصغر من إثنين حينها يكون آينشتاين على حق، وإذا كانت أكبر منها سيكون بور على صواب، أي إذا كانت الأرقام أصغر من إثنين فهذا دليل على أن الموزع تلاعب بالورق، هذه كانت نظرة آينشتاين، عند تغيير إعداد القرص للمحاولة الثانية وجد 0,82، ثم أعاد الضبط للمحاولة الثالثة، إن كانت النتيجة أكبر من إثنين فإنه لا يمكن التلاعب بمجموعة الورق، وهناك شيء آخر يحدث، النتيجة في المحاولة الثالثة كانت هي: 0,59-، وأخيراً المحاولة الرابعة 0,56:
المجموع يساوي 2,53، وهو رقم أكبر قطعاً من اثنان، ما يعني أن بوهر كان على صواب، شيء غريب يصل بينهما في الفضاء، شيء لا يمكن تفسيره أو تخيله سوى باستخدام الرياضيات، والأكثر غرابة هو أن الفوتونات تصبح حقيقية فقط حين نراقبها، بشكل غريب هذا يثبت حقاً أن القمر يختفي حين لا ننظر إليه، هذا يتحدى المنطق، لا عجب أنه في نهاية حياته كتب آينشتاين قائلاً: "هذه الخمسون سنة من التفكير الواعي لم تقربني من الإجابة عن سؤال: ما هي وحدات الكم الضوئي؟ كل شخص يظن أنه يعرف الإجابة، لكن الجميع مخطئون، التجربة تؤكد هذا فقط مهما كان ما يحدث نحن لا نفهمه، لكن هذا لا يعني أن نتوقف عن البحث" صحيح أن حلم آينشتاين، لإيجاد تفسير منطقي تحطم إلى الأبد، لكن ربما يوجد تفسير مقبول أكثر ضمن نتائج ميكانيكا الكم الغريبة، هناك أمر واحد واضح سواء أكانت هناك روابط فيزيائية مخيفة أو كانت حتى عوالم موازية أو كنا نستحضر الواقع عبر النظر إليه، مهما كانت الحقيقة ستبقى الغرابة في عالم الكم، وستظهر وجهها المخيف من مكان ما.
قبل 120 عاماً، أعظم ثورة علمية شهدها العالم حركها مصباح ضوئي، والعلماء مازالوا يستخدمون مصادر ضوء هائلة مثل الأشعة السينية لحل المزيد من ألغاز الطبيعة، كما يحدث في إحدى منشآت مسرعات الجسيمات، وأكبر منشأة علمية في المملكة المتحدة، الأشعة السينية التي ينتجونها قوية جداً، وبمساعدة مثل هذه الطاقة، يمكن للعلماء النظر للأسرار الكمية في داخل المادة. إن ميكانيكا الكم متقلبة حتى إننا نشعر أنها خاطئة تماماً أحياناً، ومع هذا فهي تفاجئنا كل يوم، وما زلنا لم نفهم عالم الكم بشكل كامل بعد، مازالت هناك حقائق أعظم عن الطبيعة علينا اكتشافها..